https://www.almothaqaf.com/qadayaama/qadayama-09/12734
لم أكن قد سمعت بها قبل أن يرسل لي أحد الأصدقاء تسجيلا صوتيا لأنشودة مطر السياب بصوتها، فما أن سمعت ذلك التسجيل حتى وجدتني أمام مبدعة تمتلك القدرة على تفجير ينابيع
المعاني من بين جمل النص الشعري معتمدة على إمكاناتها الصوتية المشبعة بروح مرهفة قادرة على الغوص في لجة النص واستخراج درره، ليتحول إلى كائن حي يتجسد أمامك تراه وتشمه وتكاد تلمسه بيديك.
كنت متحمسا بعد هذا للبحث في الشبكة العنكبوتية عن أعمال أخرى لها، فوقعت على عشرات الأعمال التي نشرتها هي في موقعها الخاص ومواقع انترنيتية أخرى، لكني هذه المرة وجدت سمات أخرى لفن جاهدة وهبة، إذ كانت معظم تلك الأعمال بشكل مقاطع فيديو تستفيد من الإمكانات التي يتيحها الفضاء الرقمي، فهي عمل فني مترابط يعتمد تقنية الوسائط المتعددة بحيث يتصاحب فيها الغناء والموسيقى مع الشعر والشرائح البصرية من صور ووصلات فيديو لتندمج كل العناصر في عمل فني واحد وتشير إلى انفعال نفسي واحد. كما في غنائها المقطع الأول من قصيدة أنشودة المطر لبدر شاكر السياب، التي صممت اعتمادا على برنامج الشرائح الالكترونية المعروف (بوربوينت)، ويمكن الاستمتاع بها من الرابط:
http://www.youtube.com/watch?v=7s1J_wBjyn8
حيث تتوالى الشرائح البصرية متزامنة مع اللحن والكلمات ومتعاضدة معها ومع أداء جاهدة لتجسيد النص السيابي، فالسطر الأول من القصيدة:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر،مثلا ،يتم غناؤه بمصاحبة ثلاث شرائح تجسد المكونات الرئيسة للصورة الشعرية فيه، الأولى عيناك:
والثانية غابتا نخيل:
والثالثة ساعة السحر:
لتخلق التوليفة الالكترونية، من شعر وصوت وصورة، جملة رقمية شديدة الكثافة، بالغة التأثير.
وتؤدي جاهدة القصيدة على طبقة صوتية خفيضة مستعينة بلاقط صوتي حساس بحيث يمكن للمستمع أن يلحظ دخول أنفاسها بوصفها جزءا من اللحن يساعده على اكتساب الصورة السيكولوجية المتفقة مع كلمات النص، بمساعدة إيقاع الكتروني يصاحب القطعة على امتدادها شبيه بوقع قطرات المطر.
لا تغني جاهدة وهبة بصوتها وما يمتلك من مقدرة حسب، بل تغني بروحها التي تتناغم مع النص الشعري، تتمثله، وتذيبه في عالمها الموسيقي لتقدم ضربا من ضروب الفن الصوفي الذي يعتمد الطاقة الروحية أساسا لتأثيره. وربما كان هذا هو السبب الذي يؤدي إلى أن تكون كل أغانيها التي اطلعت عليها من ألحانها هي. إنها تريد أن تسكب روحها في فنها ولا تريد لها أن تأخذ قالب روح أخرى غيرها.
من المعروف أن الموسيقى العربية تتميز بسمة تجعلها قادرة على تمثيل روحية العازف والمطرب، وتلك السمة هي ما يطلق عليه الموسيقيون تسمية الربع تون، الذي هو ليس درجة حقيقية على السلم الموسيقي بل هو المسافة الفاصلة بين النصف تون والدرجة الكاملة، فالنصف والدرجة الكاملة نقطتان محددتان بدقة على السلم الموسيقي، أما الربع فهو مسافة متحركة يمكن للعازف والمغني التصرف بها بما ينسجم مع طابعه الصوتي، فضلا عن أنها تعطي الانتقال بين درجات المقام الموسيقي انسيابية وتدرجا لا يوجدان في الموسيقى الغربية.
هذه الانسيابية في التنقل بين درجات المقام هي التي تعطي طابع التطريب للموسيقى العربية وهي التي تمكن المطرب من إظهار جماليات صوته أثناء ذلك التنقل بإبراز ما يسمى في عالم الغناء (العرب الصوتية) وهي تغيرات صوتية يمكن أن نشبهها بضربات ريشة الرسام بلون واحد لكن بقوة متباينة. غير أن تلك (العرب) في الغالب تظهر بشكل تلقائي، لأنها صفة خلقية لحنجرة المطرب، بحيث يصعب عليه إعادتها إراديا مرة أخرى. لكن من يستمع إلى جاهدة سيلاحظ قدرتها على التحكم بما تمتلك من خصائص صوتها وتوظيفها في المكان الذي يستدعيها لإبراز شعور انفعالي محدد.
يتميز صوت جاهدة عن الأصوات النسوية المعتادة التي تقع في مجموعة السوبرانو بأنه يقع في تصنيف آلتو مع امتداد إلى الميزوسوبرانو مما يكسبه سعة مذهلة في طبقة (القرار) عندها، وهي واعية بهذه الصفة ولذلك يجد من يستمع اليها اعتمادها بشكل لافت على (قرار) حنجرتها، وقد شاهدت وصلة فيديو تغني فيها جاهدة واحدة من أغاني السيدة فيروز، وحين توقفت الكاميرا على عازف البيانو الذي كان يصاحبها لاحظت أن أصابع يديه كانت مستقرة على الأوكتافات الثلاثة الأولى وهذا يبين سعة القرار الصوتي الذي تتميزبه.
وقد غنت جاهدة وهبة قصيدة للشاعرة أمل الجبوري عن فاجعة جسر الأئمة الشهيرة، هي:
يا دجلة الذكريات
يا ام الكربلاءات
يا ام الفرات
يا ام الحنين
تحيّيك اجساد جسر الأئمة
وفواجع الامّة
وهذي الخيبات
وظلم الطغاة
والظّلاميّون القـ...ادمون
يا مدناً تاكل ابناءها
كي تُخبّئهم بعيداً عن الغزاة والمجهول والقدر اللعين
يا أم الذاكرة ناسية أبناءها في مائها
ما عاد هناك فرق بين سمك ميت على جرفها
وحشود تندب الحياة وتشتهي الممات مثل حظ العراقيين
..........
وفي هذه الأغنية تتوهج قدرة جاهدة وهبة على خلق لحن يمثل الدلالة الشعرية بالنوتة الموسيقية، إذ يقوم لحن هذه القصيدة على خلق مجموعة من المتضادات بين الكلام والصورة وشكل الجملة الموسيقية مما يخلق التوتر المطلوب لدى المتلقي. فبينما تتحدث القصيدة عن موت رهيب يأتي المقطع الأول للأغنية بجملة لحنية تذكرنا بتلك الأغاني الشعبية التي ترنمها الأمهات العربيات لأطفالهن الرضع لتنويمهم، ليخلق مزيجا غريبا من الموت والولادة، وفي المقطع التالي تستفيد جاهدة من الكورال لتخلق تضادا دراميا بينها وبينه، فتغني هي جملة (يا مدنا تأكل أبناءها) بانتقالة إيقاعية سريعة، يرددها الكورال بعدها، لكنه يتوقف عند صوت الألف من (أبناءها) لينتقل الى مقام آخر بينما يمد الألف طويلا، فكأن بطء الكورال وسرعة المطربة يصوران الصراع بين الموت والحياة.
ومثل هذا التضاد يظهر جليا في (كي تخبئهم بعيدا عن الغزاة)، فبينما تمد المطربة في الجملة الموسيقية كلمة (بعيدا) يخطفها الكورال خطفا سريعا لإظهار التضاد بين سطح المعنى وعمقه.
وفي المقطع الأخير الذي يصور عمق الفاجعة ويظهر حجم الموت المجاني الكبير، يتسارع الإيقاع بشكل مفاجئ ليبدو مشهد الموت مفعما بالحياة تعبيرا عن خلود العراق على الرغم من كل الفواجع.
موهبة مثل موهبة جاهدة وهبة، تضيء في أنفسنا الأمل من جديد، في أن الفن الموسيقي الصادق لما يزل موجودا رغم موجات الفن التجاري الرخيص الخاضع لحاجة السوق ليحاول إفساد ذائقتنا.
............................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1368 الخميس 08/04/2010)